الضرائب الدولية والسياسة العالمية: من يمسك بخيوط اللعبة ؟

القائمة الرئيسية

الصفحات

الضرائب الدولية والسياسة العالمية: من يمسك بخيوط اللعبة ؟

الضرائب الدولية والسياسة العالمية
الضرائب الدولية والسياسة العالمية


✍️ بقلم د. مصطفى محمد بدوي

في عالمٍ تتشابك فيه المصالح وتتداخل فيه الحدود بين الاقتصاد والسياسة، لم تعد الضرائب شأنًا محليًا يخص الدولة وحدها، بل أصبحت أداة من أدوات النفوذ في العلاقات الدولية. ومع صعود العولمة وتنامي الشركات متعددة الجنسيات، ظهر مصطلح **الضرائب الدولية** ليعبّر عن شبكةٍ معقدة تربط بين السيادة الوطنية، والتجارة العالمية، والمنافسة السياسية بين القوى الاقتصادية الكبرى.
قال وزير الخزانة السابق جاكوب  "إن مستقبل الإدارة الاقتصادية للولايات المتحدة، إذا استمرت على مسارها الحالي، قاتم". وعلق الباحثان  " ASHLEY DEEKS† & ANDREW HAYASHI" فى جامعة بنسلفانيا على وزير الخزانة, من خلال بحث منشور فى  مجلة مراجعة القانون " LAW REVIEW " بعنوان قانون الضرائب كسياسة خارجية "TAX LAW AS FOREIGN POLICY"  ولكن ربما نستطيع تغيير هذا المسار." هناك أداة اقتصادية لتعزيز مصالح السياسة الخارجية لم يتطرق إليها الكونجرس والسلطة التنفيذية إلا نادرًا في السنوات الأخيرة: ضريبة الدخل الفيدرالية. لقد حان الوقت لإعادة النظر فيما يمكن أن يقدمه قانون الضرائب "  

 ما المقصود بالضرائب الدولية؟

الضرائب الدولية هي القواعد والسياسات التي تنظّم **فرض الضرائب على الأنشطة الاقتصادية العابرة للحدود,. وتشمل الأرباح التي تحققها الشركات العالمية، والتحويلات المالية بين الدول، والرسوم الجمركية، والاتفاقيات الثنائية لتجنّب الازدواج الضريبي، بل وحتى الضرائب المفروضة على التجارة الإلكترونية الحديثة.
و الأنشطة الاقتصادية العابرة للحدود   " هى الأنشطة التي تحدث عبر حدود الدول ولا يمكن السيطرة عليها من قبل دولة واحدة" وتتمثل فى الاتى :
- ضريبة الدخل على الأرباح المنقولة.
- اتفاقيات تجنّب الازدواج الضريبي.
- ضوابط الأسعار التحويلية Transfer Pricing.
- الاتفاقات المؤسسية مثل مبادرات الـBEPS التي تقودها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لمكافحة تأكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح: هذه الأدوات تهدف إلى: (أ) حماية قواعد الضرائب الوطنية، (ب) تحصيل حصص عادلة من إيرادات الشركات العابرة للحدود، و(ج) تنسيق السياسات بين الدول لتقليل النزاعات والازدواج الضريبي. 
وتُعدّ الضرائب الدولية :فرعًا حديثًا من فروع المالية العامة، يُعنى بتنظيم العلاقات الضريبية بين الدول، وضبط التزامات المستثمرين والشركات متعددة الجنسيات، وتجنب الازدواج الضريبي، ومكافحة التهرب عبر الحدود. كما تشمل الضرائب المفروضة على الأنشطة الاقتصادية الدولية — كالأرباح الناتجة عن الاستثمار الأجنبي، والتحويلات عبر الشركات العابرة للقارات، والرسوم الجمركية على التجارة الخارجية.

 السياسة العالمية والضرائب: علاقة تبادلية معقّدة:

من الملاحظ أن الضرائب والسياسة العالمية تتحركان في مسارٍ متبادل التأثير. فالقرارات السياسية الكبرى ترسم حدود الأنظمة الضريبية الدولية، في حين تُستخدم الضرائب بدورها كأداةٍ لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.
فعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة الرسوم الجمركية كسلاحٍ اقتصادي في عهد الرئيس الحالى دونالد ترامب، حيث فرضت ضرائب ضخمة على واردات الصين والاتحاد الأوروبي لحماية الصناعة الأمريكية.
لكن هذه السياسات أدّت إلى حرب تجارية عالمية رفعت الأسعار وأربكت سلاسل التوريد، ودفعت دولًا أخرى إلى الرد بإجراءات مضادة، ما كشف عن الوجه السياسي الخفي للضرائب الجمركية.
إن هدف إضعاف العدو، ليس فقط من خلال القتال المباشر، بل أيضًا من خلال الحرمان المادي لجميع سكانه وذلك من خلال السلاح الاقتصادي وبالتالي الاقتصاد بكافه ابعاده هو في الحقيقة أداة من اداوت السيطرة الذى تمارسه  الدول الكيرى وفى مقدمتهم أمريكا , وإسرائيل كما نرى لم تكتفى بالإبادة باستخدام اكثر الأسلحة فتكا ولكن أيضا مارست ومازالت تمارس الحرب الاقتصادية على قطاع غزة بالحصار الاقتصادي بكافه انواعه بالإضافة لسلاح التجويع.
 الضرائب الجمركية كأداة نفوذ دولي وصراع سياسي
 تشكل التعريفات الجمركية والعقوبات وضوابط التصدير أدوات اقتصادية وجيوسياسية تقليدية تستخدمها الدول لممارسة نفوذها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية, والتعريفات الجمركية هي ضرائب على السلع المستوردة تحمي الصناعات المحلية وتُدرّ إيرادات للدول. 
 وحينما ينشئ صراع بين دولة واخرى تكون بدايته اقتصادية ,من خلال إجراءات تقييدية تُفرض على الدول أو المنظمات أو الأفراد للتأثير على سلوكهم دون تدخل عسكري، "والتى تسمى بالعقوبات الاقتصادية", بما في ذلك القيود الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية.
حيث  تُنظّم ضوابط التصدير تصدير التقنيات الحساسة لمنع استخدامها بشكل ضار للدولة المنافسة, غالبًا ما تعمل هذه الأدوات معًا كجزء من استراتيجيات جيوسياسية أوسع، على الرغم من أنها قد تُؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة وردود فعل انتقامية محتملة من الجهات المستهدفة , وهنا يكمن خطر الانتقام: يمكن أن تؤدي السياسات الضريبية العدوانية، مثل استخدام التعريفات الجمركية، إلى اتخاذ إجراءات انتقامية من الشركاء التجاريين، مما قد يؤدي إلى حروب تجارية وعدم استقرار دبلوماسي أوسع نطاقًا.
 اذا الضرائب الجمركية ليست مجرد إيرادٍ مالي للدولة، بل تمثل أداة سياسية تُستخدم لتوجيه التجارة الدولية أو للضغط على خصوم اقتصاديين,فقد تُفرض رسوم عالية على الواردات من دولة معينة للحد من نفوذها التجاري، أو تُخفّض التعريفات لدعم شريكٍ سياسي أو اقتصادي,وتُعدّ الرسوم الجمركية أحد أقدم الأدوات الضريبية في التاريخ لكنها لا تزال فعالة في عالم اليوم.
فعندما رفعت الولايات المتحدة تعريفاتها الجمركية في عام 2018 على الصلب والألومنيوم الصيني، ردّت بكين بفرض رسوم مضادة على المنتجات الزراعية الأمريكية، مما أضرّ بالمزارعين الأمريكيين وأشعل مواجهة اقتصادية استمرت لسنوات, هكذا تحولت الضرائب من وسيلة مالية إلى أداة صراع سياسي.

امثلة توضّح العلاقة بين السياسة والضرائب:

1. الصين (2008):
   بعد الأزمة المالية العالمية، جذبت الصين تدفقات ضخمة من "الأموال الساخنة" نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة مقارنة بالدول الغربية، ما تسبب في تضخم وارتفاع كبير في الأسعار, دفعت هذه التجربة الحكومة الصينية إلى تشديد الرقابة على تدفقات رأس المال وفرض سياسات نقدية وضريبية أكثر تحفظًا.
   ➤ هنا لعبت السياسة الاقتصادية دورًا مباشرًا في تعديل النظام الضريبي.
2.الاتحاد الأوروبي:
   يسعى الاتحاد منذ سنوات إلى فرض ضريبة رقمية موحدة على شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة مثل Google وAmazon وMeta، ليس فقط لتحقيق العدالة الضريبية، بل أيضا للحد من النفوذ النفوذ الأمريكي وخلق نوع من التوازن في السوق الأوروبية الرقمية.
   ➤ مثال واضح على كيف تتحوّل الضريبة إلى أداة سيادة اقتصادية.
3. منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD:
   أطلقت مبادرة BEPS لتقليل تهرّب الشركات متعددة الجنسيات التي تنقل أرباحها إلى الملاذات الضريبية, المبادرة حظيت بدعم من مجموعة العشرين G20 وأعادت تشكيل الخريطة الضريبية العالمية.
   ➤ هنا السياسة الدولية تدعم نظامًا ضريبيًا عالميًا أكثر عدلاً.

 الضرائب والاقتصاد الوطني: التوازن الصعب

إن التفاعل بين السياسة والضرائب الدولية لا يخلو من مخاطر, فالضرائب المفرطة أو الرسوم الجمركية المفاجئة قد تؤدي إلى هروب رؤوس الأموال، بينما قد يؤدي الانفتاح الزائد إلى إضعاف الحماية الاقتصادية الوطنية.
ولهذا تتجه الدول إلى تحقيق توازنٍ دقيق بين جذب الاستثمار وحماية الاقتصاد المحلي، عبر سياسات ضريبية ذكية تستوعب متغيرات السوق العالمية دون التفريط في مصالحها

  تجربة ترامب (2018\2025) عبرة وتذكرة :

قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب , فرض تعريفات جمركية على الصين كانت تحمل دوافع سياسية أكثر منها اقتصادية, فقد أراد من خلالها الضغط على بكين لإعادة التفاوض على اتفاقات التجارة، ودعم الصناعات المحلية الأمريكية,لكن النتيجة جاءت تحمل نتائج سلبية:
* ارتفعت الأسعار داخل أمريكا.
* تقلصت صادرات الزراعة والصناعة.
* وتحوّل النزاع إلى حرب تجارية يمكن ان يؤدى الى اضعاف النمو العالمي.
وهكذا برهنت التجربة على أن الضرائب الجمركية عندما تُستخدم كأداة سياسية قصيرة الأمد, قد تترك آثارًا سلبية طويلة المدى على الاقتصاد.

 نحو رؤية متوازنة للسياسات الضريبية العالمية:

لم يعد بالإمكان فصل السياسة عن الضرائب في عالمٍ تحكمه التكتلات الاقتصادية والمصالح المتبادلة, لذلك، ينبغي أن تتجه الدول  وخاصة النامية منها إلى:
* المشاركة في الاتفاقيات الضريبية الدولية لضمان العدالة في توزيع الأرباح.
* تحديث التشريعات لمواكبة الاقتصاد الرقمي.
* وتطوير الإدارات الضريبية لتصبح أكثر شفافية وكفاءة.
فكل إصلاح ضريبي حقيقي هو في جوهره إصلاح سياسي(داخلي وخارجي ) واقتصادي معًا، يعزز السيادة الوطنية ويضمن استدامة النمو والاستقرار.

وفى النهاية :

- إن العلاقة بين الضرائب الدولية والسياسة العالمية ليست موضوعًا تقنيًا محايدًا؛ بل هي مكان تصادم بين المصالح الاقتصادية والاعتبارات السيادية، والضوابط المؤسساتية الدولية
-  الضرائب الدولية ليست مجرد أداة مالية، بل هي مرآة تُظهر توازن القوى في العالم, وعندما تُدار بحكمة، تصبح وسيلة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والعدالة المالية.
- أما حين تُسَيَّس وتُوظَّف لخدمة أجندات ضيقة، فإنها تتحول إلى سلاحٍ في حروبٍ اقتصادية تُضعف الجميع, ولعل الدرس الأهم اليوم هو أن العالم بحاجة إلى نظام ضريبي دولي أكثر عدالة وشفافية وتعاونًا, يُعيد التوازن بين العوائد الاقتصادية والمصالح السياسية، ويجعل من الضرائب وسيلة للبناء لا للهدم.












تعليقات

التنقل السريع