 |
| الأهمية الاقتصادية والبيئية لصناعة إعادة التدوير ودور السياسات الضريبية |
كتب:د. مصطفى بدوى
يشهد العالم تحولًا جذريًا في النماذج الاقتصادية التقليدية، حيث لم يعد الإنتاج القائم على استنزاف الموارد هو الطريق للنمو، بل أصبح الاقتصاد الدائري والصناعات الخضراء البديل الأكثر كفاءة وربحية.
وتُمثِّل صناعات إعادة التدوير القلب النابض لهذا التحول، إذ تجمع بين قيمة اقتصادية عالية و منفعة بيئية مباشرة، بما يجعلها من أكثر القطاعات جذبًا للاستثمار محليًا ودوليًا.
كما تمثل التشريعات الضريبية إحدى الركائز الأساسية في منظومة التنمية الاقتصادية الحديثة، إذ تؤثر بعمق في مناخ الاستثمار وجاذبية الأسواق أمام رؤوس الأموال الأجنبية. فالنظام الضريبي لا يقتصر دوره على تحصيل الإيرادات بل يمتد ليصبح أداة استراتيجية لتشجيع الأنشطة الاقتصادية المستدامة، وعلى رأسها صناعة إعادة التدوير
يهدف هذا المقال إلى القاء الضوء على الأهمية الاقتصادية والبيئية لصناعات إعادة التدوير و تحليل دور التشريع الضريبي في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، مع التركيز على كيفية توظيف الحوافز الضريبية لخدمة القطاعات الصناعية الصديقة للبيئة، وخاصة نشاط إعادة تدوير المخلفات بوصفه نموذجاً عملياً للتكامل بين الأهداف الاقتصادية والبيئية.
الأهمية الاقتصادية والبيئية لصناعات إعادة التدوير
وقبل القاء الضوء على الدور الهام للسياسات الضريبية في تشجيع وتوطين صناعة إعادة التدوير في مصر, لابد من من التذكير لماذا هذه الصناعات بهذه الأهمية الاقتصادية والبيئية بل وأصبحت من الضروريات الاقتصادية والبيئية الواجب مراعاتها عند وضع الخطط والسياسات الاقتصادية والبيئية للدول .
تُعدّ صناعات إعادة التدوير جزءًا جوهريًا من منظومة الاقتصاد الدائري الذي يهدف إلى تحويل المخلفات إلى موارد ذات قيمة اقتصادية, وقد أصبحت هذه الصناعات اليوم من أهم محركات النمو الاقتصادي عالميًا، لما توفره من فوائد مالية وبيئية واستراتيجية للدول، خاصة الدول النامية التي تواجه تحديات في إدارة الموارد والطاقة, وفيما يلى عرض للأهمية الاقتصادية والبيئية لصناعات إعادة التدوير :
أولا: الأهمية الاقتصادية والمالية:
1- خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة
تتميز صناعات إعادة التدوير بأنها كثيفة العمالة، مما يجعلها قادرة على:
• توفير آلاف الوظائف في مجالات الجمع والفرز والنقل والمعالجة والتشغيل.
• خلق فرص عمل غير مباشرة في الصناعات الداعمة مثل النقل، الصيانة، التصنيع، الطاقة، والمعدات.
" تشير تقارير البنك الدولي إلى أن كل 10 آلاف طن من المخلفات توفر ما يقرب من: وظيفة واحدة في الدفن الصحي ,مقابل 36 وظيفة في إعادة التدوير"
2- تقليل فاتورة الاستيراد وزيادة القيمة المضافة على سبيل المثال تعتمد مصر على استيراد كميات ضخمة من المواد الخام مثل:
خامات البلاستيك – المعادن – الأخشاب – الزيوت الأساسية – المخصبات الزراعية , ويمكن لإعادة التدوير ان:
• يوفر جزء كبير من هذه الاحتياجات محليًا
• يزيد من القيمة المضافة للصناعة
•يؤدى الى زيادة القدرة التنافسية للمنتجات المصرية
"وبالتالي تخفيض الضغط على العملة الأجنبية"
3- دعم الاستثمار الأجنبي المباشر
تُعتبر الصناعات الخضراء ومنها صناعة إعادة التدوير أحد أهم القطاعات التي يتنافس عليها المستثمرون الدوليون، خاصة: الصين ,الهند , المستثمرون الخليجيون ,صناديق الاستثمار البيئي (
ESG Funds) ,وغيرهم من الكيانات الاقتصادية الدولية ,ويرجع ذلك إلى:
✔ انخفاض مخاطر القطاع
✔ تزايد الطلب العالمي على المواد المعاد تدويرها
✔ توافر التمويل الدولي للمشروعات الخضراء
4- زيادة الإيرادات الضريبية للدولة
صناعات إعادة التدوير تزيد حصيلة الضرائب للنظام الضريبي عبر عدة قنوات:
• ضريبة القيمة المضافة من المبيعات ,ضريبة الدخل من الشركات ,ضريبة المرتبات التي تفرض على العاملين في هذه الصناعات, رسوم التراخيص الصناعية ,ضرائب الاستيراد والتصدير على المنتجات النهائية
"كما ان هذا القطاع غير تقليدي ينمو بسرعة، مما يعني زيادة مستمرة في الحصيلة"
5-خفض تكاليف إدارة المخلفات
بدلًا من أن تتحمل الدولة تكاليف نقل ودفن وحرق المخلفات، تقوم المصانع بتحويلها إلى مواد قابلة للربح، مما يوفر:
• تكاليف التشغيل , تكلفة الأراضي , تكلفة الانبعاثات , تكلفة المعالجة البيئية .
 |
| الأهمية الاقتصادية والبيئية لصناعة إعادة التدوير |
ثانيًا: الأهمية البيئية لصناعات إعادة التدوير والصناعات الخضراء:
1- تقليل الانبعاثات الكربونية (CO2 Reduction)إعادة التدوير تقلل الانبعاثات الناتجة عن: استخراج المواد الخام , عمليات الحرق ,النقل , لإنتاج الأولي Primary Manufacturing
"وتشير وكالة البيئة الأوروبية إلى أن إنتاج طن واحد من البلاستيك المعاد تدويره يوفر: ما بين 1.5 إلى 3 أطنان من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون"
2- الحفاظ على الموارد الطبيعيةتساهم إعادة التدوير في تقليل الضغط على: خام الحديد , خام الألومنيوم , الفحم , الخشب , النفط ... الخ " وهذا يعزز من الأمن الصناعي للدول"
3- تحسين جودة الهواء والمياه حيث تؤدي عمليات الحرق غير المنظمة للمخلفات إلى:
•انبعاث الديوكسين والرصاص , تلوث الهواء , تلوث المجاري المائية , " بينما تقوم مصانع إعادة التدوير بمعالجة المخلفات بطريقة علمية تقلل من نسب التلوث "
4- تقليل مساحة الدفن الصحي وحماية الأراضي , يساهم التدوير في: تقليل حجم المدافن الصحية , إطالة العمر الافتراضي للمقالب , استغلال الأراضي في أغراض تنموية
5 - دعم استراتيجية الدول للتحول نحو الاقتصاد الأخضرتتوافق الصناعات الخضراء مع: توجه التمويل الدولي نحو المشروعات الخضراء ,التزامات اتفاق باريس
ثالثًا: الأثر المشترك (البيئي–الاقتصادي)
صناعات إعادة التدوير تجمع بين:
- منفعة اقتصادية مباشرة (وظائف – استثمار – أرباح – إيرادات ضريبية) , ومنفعـة بيئية (خفض التلوث – ترشيد الموارد – حماية الصحة العامة)
وهناك اثار غير مباشرة منها :
- خفض الإنفاق الحكومي على إدارة النفايات وتحسين الصورة الاستثمارية للدولة دوليا من خلال التزامها بالاتفاقيات البيئية الدولية.
و تُظهر الدراسات الحديثة أن تطبيق أساليب الاقتصاد الدائري في مصر على سبيل المثال يمكن أن يؤدي إلى:
• خفض تكلفة الاستيراد من المواد الخام بما يعادل 2 مليار دولار سنويًا.
• توفير ما يقارب من 500 ألف فرصة عمل جديدة في قطاع التدوير وإدارة المخلفات.
• زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.5–2% سنويًا تقريبا
•زيادة حصيلة الضرائب غير المباشرة نتيجة توسع النشاط الصناعي الأخضر.
"وهو ما يجعلها من أهم محركات ودعائم النمو المستدام في مصر اليوم"
دور السياسات الضريبية في دعم وتوطين الصناعات الخضراء و إعادة التدوير:
إن بناء منظومة ضريبية مستقرة وعادلة يمثل حجر الزاوية في جذب الاستثمارات الأجنبية لمصر. ويُعد دعم الصناعات الخضراء مثل إعادة تدوير المخلفات نموذجًا عمليًا للتكامل بين الأهداف الاقتصادية والبيئية. فكلما أصبحت السياسة الضريبية أكثر استقرارًا ووضوحًا وعدالة، ازدادت ثقة المستثمرين، وتحولت الضرائب من عبء إلى أداة للتنمية المستدامة.
و بعد ان استعرضنا في هذا المقال الأهمية الاقتصادية والبيئية لصناعات إعادة التدوير والصناعات الخضراء, ننتقل الى دور السياسات الضريبية التي يمكن ان تساهم في تعظيم هذه الصناعة الهامة في مصر:
السياسات الضريبية ودورها فى توطين وتشجيع هذه الصناعة :
بالإضافة الى التسهيلات الضريبية التي قدمتها الإدارة الضريبية في مصر والتي تمثلت في الاعفاء من الضريبة على القيمة المضافة لمدة 5 سنوات للمعدات وخطوط الإنتاج اللازمة للتصنيع , فيمكن أيضا اتخاذ المزيد من الإجراءات وإصدار تشريعات ضريبية تساعد في توطين وتشجيع هذه الصناعة منها :
1. خصم ضريبي إضافي على نفقات البحث البيئي والتقنيات النظيفة.
2. تطبيق نظام الحوافز الخضراء وربطها بمعدلات خفض الانبعاثات.
3 منح حوافز ضريبية متزايدة للمشروعات التي تُقام في المناطق الصناعية الجديدة أو المناطق الاقتصادية الخاصة.
4 .تخصيص مزايا إضافية للاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) الذي يجلب تكنولوجيا تدوير حديثة.
5.السماح بـ نظام الائتمان الضريبي البيئي (Green Tax Credit) الذي يُخصم من الضرائب المستحقة مقابل الإنفاق على التقنيات النظيفة.
6. تبسيط الإجراءات الضريبية والرقمنة و تقليل البيروقراطية
7. إنشاء نافذة موحدة للمشروعات البيئية تشمل التسجيل الضريبي والجمركي والاستثماري في منصة واحدة
"الأثر المتوقع: تقليل تكلفة الوقت والمعاملات، وزيادة ثقة المستثمرين في بيئة الأعمال المصرية , وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر Foreign direct investment " بالإضافة الى : تحفيز الشركات العالمية على إنشاء مصانع داخل مصر بدلًا من التوريد من الخارج، بما يحقق نقل التكنولوجيا وتوطين الصناعة.
8. منح اعفاء من الضريبة على القيمة المضافة او تخفيض سعر الضريبة بشروط معينة تعتمد على كل مرحلة من مراحل التصنيع الأربعة للمخلفات (صناعات إعادة التدوير تتكون: من أربعة مراحل تبدأ من جمع المخلفات حتى بيع المنتج للمصانع لإعادة تدويرها) :
أ- مرحلة الشراء من المصادر ب- مرحلة التجميع والفرز ج- مرحلة التجهيز والمعالجة والتعبئة (Processing & Packaging) د- مرحلة البيع للمصنع (Selling to Manufacturers)
حيث تشكل مراحل (الشراء – الفرز – التجهيز – البيع) حلقة ذهبية في الاقتصاد الدائري وتُعد نموذجًا متكاملاً لتحويل المخلفات إلى موارد اقتصادية ذات قيمة عالية، وتساهم في تشغيل عمالة كبيرة ورفع تنافسية الصناعة وتقليل الانبعاثات البيئية.
ونظرا للأهمية الكبيرة لهذا القطاع الحيوي اقتصاديا وبيئيا واجتماعيا نقترح الاتي:
إمكانية تخفيض سعر ضريبة القيمة المضافة على ان يكون 5% بدلا من 14% ( السعر العام للضريبة), وذلك فيما يخص الشراء من المصدر طبقا لشروط معينة منها :توفير المستندات التي تفيد ان هذه المخلفات سوف يتم إعادة تدويرها , وان الجهة "المصدر البائع" ملتزمة بإخطار المصلحة ببيان الجهات التي تم بيع المخلفات اليها , وذلك خلال مدة معينة يحددها القانون , و في حالة عدم تقديم هذا البيان تكون الجهة ملتزمة بتحصيل الضريبة بالسعر العام.
- وبالنسبة لضريبة الأرباح التجارية والصناعية , يقترح اصدار قانون على غرار قانون رقم ( 6) لسنة 2025 , على ان يختص بحوافز وتيسيرات ضريبية لمشروعات الصناعات الخضراء وإعادة التدوير.
- اما المرحلة" ب, ج ,د" تعفى من ضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل لمدة 10سنوات بشروط خاصة تضعها الإدارة الضريبية
- اما المصانع التي تقوم بتصنيع هذه المخلفات بعد استلامها من المرحلة "د" وتقوم بتحويلها الى منتجات نهائية، يمكن تصنيفها الى قسمين :
- مصانع متخصصة فقط في صناعة إعادة التدوير وصولا للمنتج النهائي وهذه يمكن تمنح اعفاء من الضرائب لمدة 5 سنوات وفقا لشروط تضعها الإدارة الضريبية
- مصانع نشاطها يتضمن: تصنيع المنتج النهائي من المخلفات (إعادة تدوير) بالإضافة الى تصنيع منتج نهائي من المادة الخام (المصدر الأولى للمادة الخام) في هذه الحالة يتم الاكتفاء بإعفاء مدخلاتها من المخلفات( المراد تصنعيها الى منتجات نهائية ) فقط من الضريبة.
الهدف من هذه التيسيرات الضريبية الاتي :
ا- حماية البيئة عبر توجيه السلوك الإنتاجي والاستهلاكي, وتقليل التلوث وتشجيع الأنشطة الخضراء, و كما تلعب الضرائب دوراً محورياً كأداة فعالة للسياسة العامة في الحد من استهلاك السلع الضارة بالصحة (مثل التبغ والكحول والمشروبات المحلاة بالسكر)، وذلك عبر آليتين رئيسيتين: التأثير على القوة الشرائية ( الحد من الاستهلاك) وتوليد الإيرادات( زيادة أسعار الضريبة ) الموجهة للصحة العامة, يمكن ان تلعب دورا محوريا أيضا في توجيه السلوك الإنتاجي وتقليل التلوث البيئي وتشجيع الأنشطة الاقتصادية الخضراء.
ب - ضم قطاع واسع من الاقتصاد غير الرسمي الى الاقتصاد الرسمي ,ليشكل هذا القطاع بعد سنوات الاعفاء الممنوحة له وفرة كبيرة من الإيرادات الضريبية .
ج - توجيه المصنعين نحو بدائل صحية: تشجيع الشركات على الاستثمار في تطوير منتجات بديلة أو ممارسات إنتاج أنظف لتجنب الأعباء الضريبية.
أثر توطين صناعة إعادة التدوير في مصر اقتصاديا و ماليا :
قد يبدو للوهلة الأولى أن الإعفاءات الضريبية تقلل من الإيرادات، لكن على المدى المتوسط والطويل، تؤدي إلى توسيع القاعدة الضريبية وتنمية الإيرادات المستدامة:
1- توسيع القاعدة الضريبية : دخول عدد كبير من الشركات الجديدة في المنظومة الرسمية, انتقال الأنشطة غير الرسمية (القطاع غير الرسمي) إلى الاقتصاد المنظم.
النتيجة: زيادة عدد الممولين المسجلين وارتفاع حصيلة الضرائب على الدخل والقيمة المضافة.
2- خلق سلاسل قيمة مضافة جديدة للدولة :
مع ازدهار وتطور صناعة التدوير، تنشأ صناعات مرتبطة بها مثل: صناعة التعبئة والتغليف المستدامة, إعادة تصنيع المعادن والبلاستيك ,الخدمات اللوجستية للنفايات.
"كل هذه الأنشطة تُدر ضرائب مباشرة وغير مباشرة جديدة لميزانية للدولة"
3- زيادة حصيلة ضريبة الدخل والقيمة المضافة
• ازدياد عدد الشركات الممولة يؤدى الى ارتفاع حصيلة ضريبة الدخل.
• تنامي حجم تداول السلع والخدمات في السوق يؤدى الى ارتفاع حصيلة الضريبة على القيمة المضافة.
•ارتفاع دخول العاملين في هذا القطاع يؤدى الى زيادة حصيلة ضريبة المرتبات.
📈 التقديرات الدولية (من البنك الدولي وOECD) تشير إلى أن كل دولار من الحوافز الضريبية الخضراء يمكن أن يُحقق ما بين 3 إلى 5 دولارات من الإيرادات الضريبية المستقبلية نتيجة نمو النشاط الاقتصادي. ومن التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال:
ألمانيا من أنجح الدول في هذا المجال، حيث منحت حوافز ضريبية لإعادة التدوير منذ 2005:
• النتيجة: تضاعف حجم القطاع 3 مرات خلال 10 سنوات, ارتفعت حصيلة الضرائب البيئية بنسبة 60%,انخفضت البطالة في القطاعات الصناعية المرتبطة بالبيئة بنسبة 15%.ومما سبق يتضح: إن توجيه السياسات الضريبية لتشجيع وتوطين صناعة إعادة التدوير يمثل استثمارًا في الإيرادات المستقبلية، وليس تنازلًا عنها, فمن خلال تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، ونقل التكنولوجيا، ودمج القطاع غير الرسمي، تحقق الدولة أرباحًا مزدوجة:
1. تحسين البيئة وتوطين الصناعة.
2. زيادة مستدامة في الإيرادات الضريبية.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليق